فصل: تفسير الآية رقم (76):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (76):

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76)}
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل} يحتمل أن يكون عطفًا على {وَإِذْ قَالَ إبراهيم} [الأنعام: 74] وما بينهما اعتراض مقرر لما سبق ولحق، فإن تعريفه عليه السلام ربوبيته ومالكيته تعالى للسموات والأرض وما فيهن وكون الكل مقهورًا تحت ملكوته مفتقرًا إليه عز شأنه في جميع أحواله وكونه من الراسخين في المعرفة الواصلين إلى ذروة عين اليقين مما يقتضي بأن يحكم باستحالة ألوهية ما سواه سبحانه من الأصنام والكواكب التي كان يعبدها قومه، واختاره بعض المحققين، ويحتمل أن يكون تفصيلًا لما ذكر من إراءة الملكوت وبيانا لكيفية استدلاله عليه السلام ووصوله إلى رتبة الإيقان، والترتيب ذكري لتأخر التفصيل عن الإجمال في الذكر، ومعنى {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل} ستره بظلامه، وهذه المادة تصرفاتها تدل على الستر، وعن الراغب أصل الجن الستر عن الحاسة يقال: جنه الليل وأجنه وجن عليه فجنه وجن عليه ستره وأجنه جعل له ما يستره.
وقوله سبحانه: {رَأَى كَوْكَبًا} جواب لما فإن رؤيته إنما تتحقق عادة بزوال نور الشمس عن الحس وهذا كما قال شيخ الإسلام صريح في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع بل كان بعد غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس، والتحقيق عنده أنه كان قريبًا من الغروب وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى سبب ذلك، والمراد بالكوكب فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المشتري. وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنه الزهرة.
{قَالَ هذا رَبّى} استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق، وهذا منه عليه السلام على سبيل الفرض وإرخاء العنان مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فإن المستدل على فساد قول يحكيه ثم يكر عليه بالإبطال وهذا هو الحق الحقيق بالقبول. وقيل: إن في الكلام استفهامًا إنكاريًا محذوفًا، وحذف أداة الاستفهام كثير في كلامهم، ومنه قوله:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا

وقوله:
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة} [البلد: 11] إن المعنى أفلا اقتحم وجعل من ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ} [الشعراء: 22] وقيل: إنه مقول على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قومًا: هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء، وقيل: إنه عليه السلام أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا فمال إلى طريق يستدرجهم إلى استماع الحجة وذلك بأن ذكر كلامًا يوهم كونه مساعدًا لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنًا بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإن لم يقبلوا.
وقرر الإمام هذا بأنه عليه السلام لما لم يجد إلى الدعوة طريقًا سوى هذا الطريق وكان مأمورًا بالدعوة إلى الله تعالى كان نزلة المكره على كلمة الكفر ومعلوم أنه عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان، وإذا جاز ذلك لبقاء شخص واحد فبأن يجوز لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى، فكلام إبراهيم عليه السلام كان من باب الموافقة ظاهرًا للقوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم له أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل، ثم قال: ومما يقوي هذا القول أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ} [الصافات: 88، 89] وذلك لأن القوم كانوا يستدلون بعلم النجوم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم في الظاهر مع أنه كان بريئًا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام، فمتى جازت الموافقة لهذا الغرض فلم لا تجوز في مسألتنا لمثل ذلك، وقيل: إن القوم بينما كانوا يدعونه عليه السلام إلى عبادة النجوم وكانت المناظرة بينهم قائمة على ساق إذ طلع النجم فقال: {هذا رَبّى} على معنى هذا هو الرب الذي تدعونني إليه.
وقيل وقيل والكل ليس بشيء عند المحققين لاسيما ما قرره الإمام، وتلك الأقوال كلها مبنية على أن هذا القول كان بعد البلوغ ودعوة القوم إلى التوحيد وسياق الآية وسباقها شاهدا عدل على ذلك. وزعم بعضهم أنه كان قبل البلوغ ولا يلزمه اختلاج شك مؤد إلى كفر لأنه لما آمن بالغيب أراد أن يؤيد ما جزم به بأنه لو لم يكن الله تعالى إلهًا وكان ما يعبده قومه لكان إما كذا وإما كذا والكل لا يصلح لذلك فيتعين كون الله تعالى إلهًا وهو خلاف الظاهر ويأباه السياق والسباق كما لا يخفى. وزعم أنه عليه السلام قال ما قال إذ لم يكن عارفًا بربه سبحانه والجهل حال الطفولية قبل قيام الحجة لا يضر ولا يعد ذلك كفرًا مما لا يلتفت إليه أصلًا، فقد قال المحققون المحقون: إنه لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء، وقد قص الله تعالى من حال إبراهيم عليه السلام خصوصًا في صغره ما لا يتوهم معه شائبة مما يناقض ذلك فالوجه الأول لا غير. ولعل سلوك تلك الطريقة في بيان استحالة ربوبية الكوكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام كما قيل لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول فلو صدع بالحق من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام لتمادوا في المكابرة والعناد ولجوا في طغيانهم يعمهون، وكان تقديم بطلان إلهية الأصنام على ما ذكر من باب الترقي من الخفي إلى الأخفى.
وقيل: إن القوم كانوا يعبدون الكواكب فاتخذوا لكل كوكب صنمًا من المعادن المنسوبة إليه كالذهب للشمس والفضة للقمر ليتقربوا إليها فكان الصنم كالقبلة لهم فأنكر أولا عبادتهم للأصنام بحسب الظاهر ثم أبطل منشآتها وما نسبت إليه من الكواكب بعدم استحقاقها لذلك أيضًا، ولعلهم كانوا يعتقدون تأثيرها استقلالا دون تأثير الأصنام ولهذا تعرض لبطلان الالهية في الأصنام والربوبية فيها. وقرأ أبو عمرو وورش من طريق البخاري «رأى» بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف ويحيى عن أبي بكر «رأئي» بكسر الراء والهمزة.
{فَلَمَّا أَفَلَ} أي غرب {قَالَ لا أُحِبُّ الافلين} أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال، ونفي المحبة قيل: إشارة إلى نفي اعتقاد الربوبية. وقيل كنى بعدم المحبة عن عدم العبادة لأنه يلزم من نفيها نفيها بالطريق الأولى، وقدر بعضهم في الكلام مضافًا أي لا أحب عبادة الآفلين، وأيًا ما كان فمبتدأ الاشتقاق علة للحكم لأن الأفول انتقال واحتجاب وكل منهما ينافي استحقاق الربوبية والألوهية التي هي من مقتضيات الربوبية لاقتضاء ذلك الحدوث والإمكان المستحيلين على الرب المعبود القديم.

.تفسير الآية رقم (77):

{فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)}
{فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغًا} أي مبتدأ في الطلوع منتشر الضوء، ولعله كما قال الأزهري مأخوذ من البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا ويقال. بزغ الناب إذا ظهر وبزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها. ويقال: بزغ الدم أي سال، وعلى هذا فيمكن أن يكون بزوغ القمر مشبهًا بما ذكر وكلام الراغب صريح فيه، وظاهر الآية أن هذه الرؤية بعد غروب الكوكب.
وقوله سبحانه: {قَالَ هذا رَبّى} جواب لما وهو على طرز الكلام السابق {فَلَمَّا أَفَلَ} كما أفل الكوكب {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى} إلى جنابه الحق الذي لا محيد عنه {لاَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين} فإن شيئًا مما رأيته لا يصلح للربوبية، وهذا مبالغة منه عليه السلام في النصفة، وفيه كما قال الزمخشري تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلهًا وهو نظير الكواكب في الأفول فهو ضال، والتعريض بضلالهم هنا كما قال ابن المنير أصرح وأقوى من قوله أولا {لا أُحِبُّ الافلين} [الأنعام: 76] وإنما ترقى عليه السلام إلى ذلك لأن الخصوم قد أقامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال، فما عرض لهم عليه السلام بأنهم على ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم له إلى آخره. والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتصريح بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة عليهم وتبلج الحق وبلغ من الظهور غايته.
وفي هذه الجملة دليل من غير وجه على أن استدلاله عليه السلام ليس لنفسه بل كان محاجة لقومه. وكذا ما سيأتي. وحمل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام استعجز نفسه فاستعان بربه عز وجل في درك الحق وما سيأتي على أنه إشارة إلى حصول اليقين من الدليل خلاف الظاهر جدًا، على أنه قيل: إن حصول اليقين من الدليل لا ينافي المحاجة مع القوم، ثم الظاهر على ما قال شيخ الإسلام أنه عليه السلام كان إذ ذاك في موضع كان في جانبه الغربي جبل شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل وكان الكوكب قريبًا منه وأفقه الشرقي مكشوف أولًا وإلا فطلوع القمر بعد أفول الكوكب ثم أفوله قبل طلوع الشمس كما ينبئ عنه قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (78):

{فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)}
{فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً} أي مبتدأة في الطلوع مما لا يكاد يتصور، وقال آخر: إن القمر لم يكن حين رآه في ابتداء الطلوع بل كان وراء جبل ثم طلع منه أو في جانب آخر لا يراه وإلا فلا احتمال لأن يطلع القمر من مطلعه بعد أفول الكوكب ثم يغرب قبل طلوع الشمس انتهى.
وأنت تعلم أن القول بوجود جبل في المغرب أو المشرق خلاف الظاهر لاسيما على قول شيخ الإسلام لأن هذا الاحتجاج كان في نواحي بابل على ما يشير إليه كلام المؤرخين وأهل الأثر وليس هناك اليوم جبل مرتفع بحيث يستتر به الكوكب وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل، واحتمال كونه كان إذ ذاك ولم يبق بتتالي الأعوام بعيد، وكذا يقال على القول المشهور عند الناس اليوم: إن واقعة إبراهيم عليه السلام كانت قريبًا من حلب لأنه أيضًا ليس هناك جبل شامخ كما يقوله الشيخ على أن المتبادر من البزوغ والأفول البزوغ من الأفق الحقيقي لذلك الموضع والأفول عنه لا مطلق البزوغ والأفول.
وقال الشهاب: إن الذي ألجاهم إلى ما ذكر التعقيب بالفاء ويمكن أن يكون تعقيبًا عرفيًا مثل تزوج فولد له إشارة إلى أنه لم تمض أيام وليال بين ذلك سواء كان استدلالًا أو وضعًا واستدراجًا لا أنه مخصوص بالثاني كما توهم على أنا لا نسلم ما ذكر إذا كان كوكبًا مخصوصًا وإنما يرد لو أريد جملة الكواكب أو واحد لا على التعيين فتأمل انتهى. ولا يخفى أن القول بالتعقيب العرفي والتزام أن هذا الاستدلال لم يكن في ليلة واحدة وصبيحتها هو الذي يميل إليه القلب، ودعوى إمكان طلوع القمر بعد أفول الكوكب حقيقة وقبل طلوع الشمس وأفوله قبل طلوعها لا يدعيها عارف بالهيئة في هذه الآفاق التي نحن فيها لأن امتناع ذلك عادة ولو أريد كوكب مخصوص أمر ظاهر لاسيما على ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن رؤية القمر كانت في ءاخر الشهر. نعم قد يمكن ذلك في بعض البروج في عروض مخصوصة لكن بيننا وبينها مهامه فيح، ولعله لذلك أمر بالتأمل فتأمل.
{قَالَ} أي على المنوال السابق {هذا رَبّى} إشارة إلى الجرم المشاهد من حيث هو لا من حيث هو مسمى باسم من الأسامي فضلًا عن حيثية تسميته بالشمس ولذا ذكر اسم الإشارة. وقال أبو حيان «يمكن أن يقال: إن أكثر لغة العجم لا تفرق في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث بل المؤنث والمذكر عندهم سواء فأشير في الآية إلى المؤنث بما يشار به إلى المذكر حين حكى كلام إبراهيم عليه السلام وحين أخبر سبحانه عن المؤنث ببازغة وأفلت أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية.
وتعقب بأن هذا إنما يظهر لو حكى كلامهم بعينه في لغتهم أما إذا عبر عنه بلغة العرب فالمعتبر حكم لغة العرب، وقد صرح غير واحد بأن العبرة في التذكير والتأنيث بالحكاية لا المحكي ألا ترى أنه لو قال أحد: الكوكب النهاري طلع فحكيته عناه وقلت: الشمس طلعت لم يكن لك ترك التأنيث بغير تأويل لما وقع في عبارته، وإذا تتبعت ما وقع في النظم الكريم رأيته إنما يراعي فيه الحكاية على أن القول بأن محاورة إبراهيم عليه السلام كانت بالعجمية دون العربية مبني على أن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية والصحيح خلافه.
وقيل: التذكير لتذكير الخبر وقد صرحوا في الضمير واسم الإشارة مثله أن رعاية الخبر فيه أولى من رعاية المرجع لأنه مناط الفائدة في الكلام وما مضى فات، وفي الكشاف «بعد جعل التذكير لتذكير الخبر وكان اختيار هذه الطريقة واجبًا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله تعالى: علام ولم يقولوا علامة وإن كان العلامة أبلغ احترازًا من علامة التأنيث» واعترض عليه بأن هذا في الرب الحقيقي مسلم وما هنا ليس كذلك. وأجيب بأن ذلك على تقدير أن يكون مسترشدًا ظاهر، والمراد على المسلك الآخر إظهار صون الرب ليستدرجهم إذ لو حقر بوجه ما كان سببًا لعدم إصغائهم.
وقوله تعالى: {هذا أَكْبَرُ} تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة مع إشارة خفية كما قيل إلى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر، وكون الشمس أكبر مما قبلها مما لا خفاء فيه، والآثار في مقدار جرمها مختلفة. والذي عليه محققو أهل الهيئة أنها مائة وستة وستون مثلًا وربع وثمن مثل الأرض وست آلاف وستمائة وأربعة وأربعون مثلًا وثلثا مثل للقمر، وذكروا أن الأرض تسعة وثلاثون مثلًا وخمس وعشر مثل للقمر، وتحقيق ذلك في «شرح مختصر الهيئة» للبرجندي.
{فَلَمَّا أَفَلَتْ} كما أفل ما قبلها {قَالَ} لقومه صادعًا بالحق بين ظهرانيهم. {قَالَ يا قوم إِنّي بَرِيء مّمَّا تُشْرِكُونَ} أي من إشراككم أو من الذي تشركونه من الأجرام المحدثة المتغيرة من حال إلى أخرى المسخرة لمحدثها، وإنما احتج عليه السلام بالأفول دون البزوغ مع أنه أيضًا انتقال قيل لتعدد دلالته لأنه انتقال مع احتجاب والأول: حركة وهي حادثة فيلزم حدوث محلها، والثاني: اختفاء يستتبع إمكان موصوفه ولا كذلك البزوغ لأنه وإن كان انتقالًا مع البروز لكن ليس للثاني مدخل في الاستدلال. واعترض بأن البزوغ أيضًا انتقال مع احتجاب لأن الاحتجاب في الأول لاحق وفي الثاني: سابق، وكونه عليه السلام رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء كما قيل ولم يشاهد بزوغه فإنما يصير نكتة في الكوكب دون القمر والشمس إلا أن يقال بترجح الأفول بعمومه بخلاف البزوغ.
والأولى: ما قيل: إن ترتيب هذا الحكم ونظيريه على الأفول دون البزوغ والظهور من ضروريات سوق الاحتجاج على هذا المساق الحكيم فإن كلًا منهما وإن كان في نفسه انتقالًا منافيًا لاستحقاق معروضه للربوبية قطعًا لكن لما كان الأول حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة رتب عليه الحكم الأول أعني {هذا رَبّى} على الطريق المذكورة، وحيث كان الثاني حالة مقتضية لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد رتب عليها ما رتب انتهى.
وعنى هذا ما قاله الإمام في وجه الاستدلال بالأفول من أن دلالته على المقصود ظاهرة يعرفها كل أحد، فإن الآفل يزول سلطانه وقت الأفول، ونقل عن بعض المحققين أن الهوى في حضيض الإمكان أفول؛ وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان وكل ممكن محتاج والمحتاج لا يكون مقطعًا للحاجة فلابد من الانتهاء إلى ما يكون منزهًا عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال سبحانه: {وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى} [النجم: 42] وأما الأوساط فهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة وكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الآفل إلهًا بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل، وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوؤه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك لم يصلح للإلهية ثم قال: فكلمة {لا أُحِبُّ الافلين} مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين. وهناك أيضًا دقيقة أخرى وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين ومذهب أهل النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي وكان صاعدًا إلى وسط السماء كان قويًا عظيم التأثير أما إذا كان غريبًا وقريبًا من الأفول فإنه يكون ضعيف الأثر قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص التأثير عاجزًا عن التدبير وذلك يدل على القدح في إلهيته. ويظهر من هذا أن للأفول على قول المنجمين مزيد خاصية في كونه موجبًا للقدح في إلهيته.
ولا يخفى أن فهم الهوى في حضيض الإمكان من {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 77] في هذه الآية مما لا يكاد يسلم، وكون المراد فلما تحقق إمكانه لظهور أمارات ذلك من الجسمية والتحيز مثلًا قال إلخ لا يخفى ما فيه، نعم فهم هذا المعنى من {لا أُحِبُّ الافلين} [الأنعام: 76] را يحتمل على بعد، ونقل عن حجة الإسلام الغزالي أنه حمل الكوكب على النفس الحيوانية التي لكل كوكب والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك، والشمس على العقل المجرد الذي لكل فلك، وعن بعضهم أنه حمل الكوكب على الحس، والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل، والمراد أن هذه القوى المدركة قاصرة متناهية القوة ومدبر العالم مستولي عليها قاهر لها. وهو خلاف الظاهر أيضًا، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة نظير ذلك، وإنما لم يقتصر عليه السلام في الاحتجاج على قومه بأفول الشمس مع أنه يلزم من امتناع صفة الربوبية فيها لذلك امتناعها في غيرها من باب أولى.
وفيه أيضًا رعاية الإيجاز والاختصار ترقيًا من الأدون إلى الأعلى مبالغة في التقرير والبيان على ما هو اللائق بذلك المقام ولم يحتج عليهم بالجسمية والتحيز ونحوهما مما يدركه الرائي عند الرؤية في أمارات الحدوث والإمكان اختيارًا لما هو أوضح من ذلك في الدلالة وأتم، ثم إنه عليه السلام لما تبرأ مما تبرأ منه توجه إلى مبدع هذه المصنوعات وموجودها.
فقال: